أيقن
انه لن يعود أن وطأت قدماه عتبة باب المنزل لم يكترث للأمر ولم ينصت لدوي
الانفجارات وأصوات المعارك الدائرة في الخارج .. وكأنه غائب في أعماق موعده
مع القدر .. حمل معطفه وتهيأ للخروج استوقفته عينان لم تعتد على
تجاوزهما..
- إلى أين يا بني؟
- اليوم الخميس وتعلمين أني ازور والدّي في مثل هذا الوقت كل أسبوع.
- اذهب غدا .. أو بعد غد .. أما اليوم..
- جدتي ..
قاطعها .. أراد أن يطمئنها .. لكنها واصلت الكلام ..
- لم يكن لي في هذهِ الدنيا سوى أمك هي ابنتي الوحيدة وقد رحلت مع والدك.
- أعدكِ بأني ساكون بخير جدتي ..
- لن تعود .. اعلم هذا .. في قلبي شيء ينبئني باني سأبقى وحيدة ..
- لا اعلم لمَ أنت خائفة؟
- كيف لا أخاف وأنت ترى ما يدور في الخارج .. لكن أن كنت مصراً فأوصيك أن تحمل سلامي لأمك وأنني سألقاها قريباً.
ثم احتضنته وهمست بأذنه " سأفتقدك " قبلها من رأسها وخرج .. كانت المدينة
خالية الكل التجأ إلى المنازل واغلق أبوابه فالمعركة في اشدها.. أزيز
الطائرات وهدير العجلات العسكرية لا ينقطع، لم يعي انه قد جازف في خروجه..
تخطى الطرقات الضيقة يلتصق أحياناً بالجدران حين تمر عربه مصفحة أو مجموعة
من الجنود أراد أن يصل إلى والداه بأي ثمن وهما غير بعيدان عنه .. المسافة
بينه وبينهما قصيرة لكنها مشتعلة في تلك اللحظات والرصاص فيها اصبح لغة
التفاهم بين الخير والباطل "بني .. مهما علت للباطل راية ففي القلوب للخير
رايات، وان لم تعلوا الآن فغداً مع زغاريد النساء وبشارات النصر ستعلو"
استرجع تلك الكلمات التي حدثه بها والده يوماً واشتد بها عزمه وهو يقطع تلك
المسافة نحو المقبرة حيث يرقد والداه.. تخيل انهما ينتظراه يعلمان انه لم
يخلف معهما موعداً في حياتهما فكيف حين استودعاه ورحلا..
جلس بمحاذاة والدته يحمل بيده المصحف " أمي.. جدتي تسلم عليكِ تقول أنها
ستأتي إليكما .. ربما أكون صغيراً على أن افهم أنها تشعر بأن أجلها قد
قرب.. كان هذا طلبها الأخير ولم أشأ أن أخفيه عنكِ وعن والدي" وضع المصحف
في جيبه وزحف بين القبرين حين أشتد الرصاص قريباً منه ورفع رأسه ببطء ليرى
ما يجري، كان ثمة جنود أمريكان يقتلون عراقيين أقتادهم إلى المقبرة شعر
بالغضب وشعر أن أمه ترتب على كتفيه قاده شوقه بحنين هادر لهما، نهض ولم يكن
سلاحه سوى الحجارة وكلماته تجلجل " أنجاس ارحلوا يا قتله" وهو يرمي ويرمي
حتى تخضبت الحجارة بقطرات الدماء وغابت عيناه خلف جدران صماء توقفت فيها
عقارب الحياة .. أبتسم حين رآهما وسار كالطيف منتشياً وهو يقول " سأفتقدكِ
جدتي".